الثلاثاء، 20 ديسمبر 2011

الجيل الثالث!

الجيل الثالث!

في تعليق لإحدى المغردات العربيات في المهجر، تقول إنها تشمّ رائحة مسيل الدموع وهي في مسكنها بفنزويلا، لكثرة ما تقرأ وتشاهد من مناظر ولقطات مصوَّّرة في إحدى البلدان العربية الصغيرة... على مواقع التواصل الاجتماعي «الفيسبوك» و «التويتر».
هذا ما شعَرتْ به من تعيش في فنزويلا... فكيف بمن يعيشون في تلك الأحياء الشعبية المزدحمة ذات الشوارع الضيقة، الذين يتعرضون منذ أشهر إلى هذه المنتجات الكيماوية السامة بشكل يومي، ومن فاته نصيبه نهاراً ناله ليلاً... في مخالفةٍ صريحةٍ حتى للتعليمات المكتوبة بشأن استخدام مثل هذه المنتجات البشعة في مناطق مفتوحة، ومن مسافات بعيدة منعاً للاختناق وإيذاء البشر؟
هذا التماس الدائم للبحرينيين مع مسيلات الدموع، أكسبهم خبرةً وثقافةً مسيلةً للدموع! فهم أخذوا يبحثون عن أسماء الشركات الميركانتيلية المنتجة، فيكتب لها بعضهم عبارات الشكر والثناء على ما تقدّمه من خدمةٍ جليلةٍ للبشرية المعذبة! ويراسلها آخرون للتنديد بمنتجاتها وتوبيخها وتقريعها... فربما يستيقظ ضميرها يوماً ما!
لقد دخلت مسيلات الدموع في جيناتهم، وتغلغلت إلى أعماق خلاياهم، وخصوصاً بعدما أصبحوا يستيقظون على شوارع مفروشة بالعبوات المعدنية والكرات المطاطية السوداء والحمراء، التي أصبح أطفالهم يلهون بها، ويصنعون منها مكعبّات ومربّعات ومخمّسات ودوّارات! وأحد صبيانهم صنع منها نعالاً مزركشاً، وآخر صنع منها خوذةً تذكر بالأفلام التاريخية القديمة أيام محمود المليجي وتوفيق الدقن!
هناك من يرى أن هذا البلد العربي الصغير، هو أكثر البلدان استهلاكاً لهذه المنتجات على مستوى العالم، نسبةً إلى مساحته وعدد سكانه. بل إن ثلاثة أجيال من أبناء هذا البلد تعرّضت باستمرار لهذه المنتجات السامة، حيث نشأوا وترعرعوا وعاصروا ثلاثة أجيالٍ من مسيلات الدموع. فبعد المنتجات البريطانية أيام الاستعمار، دخلت المنتجات الأميركية السوق، أمّا الجيل الجديد فيُقال انه من إنتاج جمهورية البرازيل الديمقراطية... إحدى دول «البريكس»!
بالنسبة لي شخصياً، كنت أحب البرازيل، وأشجّع منتخبها في دورات كأس العالم، وكنت أعتبر لاعبها الشهير «بيليه» أعظم لاعب كرة في التاريخ. وعندما كنت أقرأ في الثمانينيات أن البرازيل من أكبر الدول المدينة، كنت أتمنى أن تتخلص من ديونها وتصبح دولة متقدمة. أما الآن، وبعد أن تجرّعتُ كمياتٍ لا بأس بها من مسيلات دموعها أصبحت أكرهها، ولم أعد أحب بيليه! وخصوصاً بعدما شاهدت طفلي الذي لا يتجاوز الخامسة، يستيقظ من نومه فزعاً، يتلوى اختناقاً من مفعول سمومها.
إنني لن أحزن إطلاقاً لو انهارت مجموعة «البريكس» وتشتت شملها، وعادت البرازيل من دولة ذات ثامن أكبر اقتصاد في العالم، إلى دولةٍ ناميةٍ يبتزها البنك الدولي وترزح مجدداً تحت الديون! حتى الرئيس البرازيلي اليساري السابق لويس لولا دي سيلفا الذي كنت أحبه، أصبحت أكرهه!
ذاكرتي أصبحت مثقوبةً، ولم أعد أتذكر أعداد الضحايا بعدما تجاوزوا الأربعين خلال تسعة أشهر فقط. إلا أنني مازلت أتذكر أن هناك طفلاً وطفلة، ورجلاً مسناً، واثنين من ذوي الاحتياجات الخاصة، قضوا جميعاً بسبب مسيلات الدموع. هذا ليس سراً، كل الناس يعرفون ذلك، إلا أن بعض الجهات تنفي ذلك، وتقول إنهم ماتوا جميعاً ميتة طبيعية، أو بسبب صاعقة نزلت فجأةً من السماء!
في السنوات السابقة، عندما كانت تحدث بعض الأحداث المؤسفة في بعض الأماكن، ويتعرّض بعض السياح الخليجيين بالصدفة للرائحة، كانوا يُقسِمون بالله واليوم الآخر أنهم لن يعودوا للبحرين مرة أخرى! أغلب الشعوب الخليجية، لم يشمُّوا في حياتهم رائحة مسيلات الدموع، حتى أيام الاستعمار البريطاني! كانوا يسمعون عنها، أو يشاهدونها في أخبار الانتفاضة الفلسطينية، ولكنهم لا يرونها بأعينهم، ولا يشمونها بأنوفهم... إلا عندما يعبرون الجسر


قاسم حسين

صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3392 - الأربعاء 21 ديسمبر 2011م الموافق 26 محرم 1433هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق